×

اد. اسامة شهاب حمد الجعفري: القاضي بين سلطة النص وسلطة المعنى

اخر الاخبار والمواضيع

د. اسامة شهاب حمد الجعفري

اد. اسامة شهاب حمد الجعفري: القاضي بين سلطة النص وسلطة المعنى

منذ ان تشكل القانون كنظام يحكم سلوك الافراد ويؤطر حياتهم الاجتماعية, ويؤكد العقد الاجتماعي الذي وجدوا بمقتضاه كجماعة السياسية, لم ينفك فلاسفة القانون عن الجدال في هذا السؤال : من يصنع القانون؟

1- الاتصال النصي … عصب النظام القانوني

انما يأتي القانون على هيئة “نص” يتمتع بالقهر والاجبار, الذي يعد عصب النظام القانوني وعن طريقه يتصل بالمخاطبين به, فالاتصال النصي هو الجسر الذي يعبر به الحكم  القانوني لينظم الاحوال ويجرم الافعال ويحمي الاموال, على هداه يحكم على انسان بالاعدام ويبرأ آخر, وبحكمته تتوزع الاموال. النص ليس مجرد سلسلة جمل وعبارات وانما هو وحدة دلالية تداولية تكون نسيجاً متآلفاً متماسكاً من الاحكام القانونية, والتماسك النصي للقانون يكون بالربط بين “عناصر النص داخلية” وبين النص والبيئة المحيطة به. فيتشكلٍ بموجبه مسارين, الاول: عند إخراجه بتركيبه اللغوي وهذه المرحلة تسمى التشريع, والثاني: عند نقل هذا النص الى الواقع ليكون مؤسسة تحكم الواقع, وهذه المرحلة تسمى تطبيق القانون, وبذلك يكون تداول النص القانوني بين سلطتين: سلطة كتابته وهي اختصاص السلطة التشريعية, و سلطة قراءته لتحديد معناه لتطبيقه وهي اختصاص السلطة القضائية. فالنص عند تأليفه من المشرع نصٌ ابكم, والذي يوظف النص اللغوي كظاهرة اجتماعية هو القاضي . ولن يكون القانون ظاهرة اجتماعية الا بعد ادراك المقصود منه, وادراك المقصود يكون من خلال سلطة التفسير الممنوحة للقاضي والتي هي بجوهرها “سلطة تحديد المعنى” .

2- القاضي … بوصفه صانعاً للمعنى   

وفقاً للفهم الوضعي التقليدي كانت وظيفة القاضي قد وضعت بشكل صارم كما حددها “مونتسكيو” بتطبيق القانون الذي تصنعه الارادة العامة في البرلمان, ولا يملك القاضي حق صناعته تطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات. لكن الامر ليس بهذه البساطة التي تصور القاضي وكأنه آلة تطبق القانون ميكانيكياً, فالقانون عندما يشرع في البرلمان يكون حمال اوجه وغير محدد , لان النقص الفطري هو المسيطر على النص القانوني الوضعي بأصل قصور تصورات المشرع واطر تفكيره الحاكم عند تشريعه, فلا يكتسب معنى ودقة الا بعد ان تفسره المحاكم وتطبقه في قضية بعينها, فيتحدد بشكل قطعي ونهائي. فالنص وحده لا يكفي فمثلاً ما المقصود بـ”الضرر” و “الحق العام” و “الكتلة الاكبر” و “العدالة” كلها مفاهيم قانونية تحتاج الى تفسير يحولها من “لغة” الى “فعل”, القاضي هو من يقرر “المعنى” اي يؤسس للواقعية القانونية. ولحظة النطق بالحكم القضائي هي لحظة الولادة الحقيقية لمعنى النص القانوني, ولاجل ذلك قرر القانون حماية المعنى بقاعدة حجية الشيء المقضي به وجعله معنى لا يُدحض, فالقاضي عندما يفصل في الواقعة المعروضة امامه هو في الوقت ذاته يقرر معنى للنص القانوني في بعده الاجتماعي, وعندما يقرر الحقيقة الواقعية للنزاع فانه في ذات الوقت يقرر المعنى الحقيقي للنص القانوني. بل ان القضاة في الفراغ التشريعي يضعون القانون بعد حدوث الوقائع. فالاعتراف للقضاء بسلطة تكملة التشريع الناقص هو استثناء من مبدأ الفصل بين السلطات وهو استثناء ما يبرره كما يقول “جان لوك”.

الحكم القضائي هو القانون الفعلي وهو الذي يتحرك داخل المجتمع لا النص القانوني ناسجاً الحقوق والحريات, فالقاضي لا يتعامل مع النص في الفراغ بل يتعامل معه في داخل السياق الثقافي والاجتماعي والقيمي ولغوي, لينتج معنى قانونياً واقعياً كفاعل في المجتمع من خلال سلطته على تحديد المعنى وهو بهذا السياق يعد شريكاً في انتاج القانون من خلال انتاج المعنى. ووفقًا للفقيه الفرنسي ميشيل تروبيه  (Michel Troper) فإن القانون لا يتكون من النصوص، بل من القرارات التي تُعطي النصوص معنى ملزِمًا.

3- سلطة القاضي لانتاج المعنى ضرورة ام ازمة؟

يكتب البرلمان النصوص والقاضي هو من يؤسس وجودها العملي, فالقانون لا يعيش بالنصوص وانما يعيش بالمعنى , والقاضي عندما يؤسس المعنى لا يعني انه يخرج عن النظام القانوني و انما هو يمارسه استناداً للسلطة المخولة له في تحقيق العدالة فالاخيرة لا تتحقق بالكلمات و انما بالمعاني التي تحول الكلمات الى واقع يعيشه الفرد والمجتمع, فهو يمارسها داخل الشرعية الديمقراطية كما يقول “هارت”, وعندما يكون القاضي شريك في بناء القانون ذلك لان النصوص بحاجة الى تفسير اخلاقي فالقانون ليس مجرد “ما قيل” و انما ما ينبغي ان “يفهم” في ضوء العدالة كما يقول “دوركين”.

حقاً ان القضاة لا يفتشون عن المعنى من جعبة آرائهم الذاتية, بل يستمدون احكام معاني القانون من مصادر ذات طابع عام من التشريعات والسوابق القضائية وتقارير الخبراء والعرف والسياسة العامة ومباديء الاخلاق والقيم التي يؤمن بها غالبية المجتمع , وبطريقة عقلية شديدة الصرامة والمنطقية , وتحت رقابة قضائية عليا , فالقانون لا يتحدد الا من خلال ما تصدره المحاكم كضرورة تتصل بوظيفة القضاء, الذي هو الشكل النهائي للقانون باعلى درجة من السلطة. وعندما يكون القاضي تحت زخم الوقائع المتغيرة ومستجدة وامام نص ثابت وجامد فان من يؤسس لنص متطور وخلاق وقابل لاستيعاب كل المتغيرات هو القاضي عبر سلطة المعنى عندما يضفي الحياة على ما في التشريع من جمود. هذه السلطة هو تقرير لامر واقع . 

د. اسامة شهاب حمد الجعفري
د. اسامة شهاب حمد الجعفري

Share this content:

عراقي عربي مسلم متعلم في سبيل النجاة مهتم بالشان السياسي والقانوني مستشار قانوني ادارة موقع الشبكة من اجل ثقافة قانونية والخبر الصحيح ادارة عراق المودة لاستضافة المواقع

ربما تكون قد فاتتك