
ريم السيد: قصة تمن الغواية
كانت حياته هادئةً. زوجةٌ محبّة، طفلٌ يملأ البيت بهجةً، ووظيفةٌ حكوميةٌ ثابتةٌ توفر له عيشًا كريمًا. لم يطمح لأكثر من هذا الاستقرار، حتى جاء ذلك اليوم الذي جلس فيه بمقهى الحي، ورأى رجلًا غريبًا يرتدي ملابس أنيقة ويبدو عليه الترف، كان ذاك حسام، مغتربٌ جاء لقضاء إجازته السنوية في الوطن.
تبادلا التحايا، ثم تعارفا، وسرعان ما نشأت بينهما صداقةٌ لم يكن فارس يتوقعها. قضيا معظم الوقت معًا، يتحدثان عن الغربة وأحلام الثراء السريع. كان حسام يتفاخر بحياته المرفهة في الخارج، ويُغري فارس بلمعان الفرص المتاحة هناك.
قبل أيام من عودة حسام إلى بلاد الغربة، التفت إليه في المقهى، وعيناه تلمعان ببريقٍ مُغْوٍ:
“يا فارس، أنت شابٌ طموح، تستحق حياةً أفضل من هذه. ما رأيك في السفر معي؟ أستطيع أن أجد لك عملًا ممتازًا، يغير حياتك رأسًا على عقب!”
شعر فارس بالتردد، لكن كلمات حسام كانت تلمس طموحه الدفين.
“ولكن… وظيفتي؟ وزوجتي وابني؟”
ابتسم حسام بسخريةٍ خفيفة: “وظيفتك؟ وماذا تساوي هذه الوظيفة بجانب الثراء الذي ينتظرك؟ أما زوجتك وابنك… فلتتخلص من هذه القيود، لتكن حرًا يا صديقي. أنت بحاجةٍ إلى التفرغ الكامل للعمل، والبدايات تتطلب تضحيات!”
تسللت كلمات حسام إلى أعماق فارس، تُلقي بظلال الشك على حياته المستقرة. كانت فكرة التحرر من المسؤوليات تبدو جذابةً بشكلٍ غريب. بعد ليالٍ من الأرق والتفكير المضني، اتخذ فارس قراره الصادم.
عاد إلى منزله، ووجهه شاحبٌ، وقال لزوجته مروة، التي كانت تستقبله بابتسامة:
-مابك؟ تبدو متغيرًا الليلة؟
قال دون تردد:
-لقد قررت السفر. سأطلقك، أريد أن أكون حرًا.
صُدمت مروة، وتجمّدت الكلمات على شفتيها. كانت عيناها تفيضان بالدموع، لكن فارس كان قد أغلق قلبه وعقله أمام كل شيءٍ سوى وهم الثراء.
يومها خرجت تجر حقيبتها وابنها على كتفها ودموعها لا تجف، وقبل أن تفتح الباب قالت بقهر:
-مثلما تركتني وتركت ابنك، الله يجعل عمرك ما تقدر تعاشر أي بنت، وإذا خلفت ما تفرح بأولادك، ويتشتتوا عنك، وتتمنى تشوفهم وما تقدر.
وبالفعل، تم الطلاق ولم يمضِ الشهر إلا وجميع الإجراءات منتهية، وغادر فارس وطنه، تاركًا وراءه كل ما كان يمثل أمانه وسعادته.
في بداية الرحلة، كان حسام إلى جواره، يريه معالم المدينة الجديدة ويُشعره بالأمان. لكن بعد أسبوعين فقط، تغيرت نبرته، صارمةً وقاطعة:
“اسمع يا فارس، لقد فعلتُ ما بوسعي. لم أعد أستطيع تحمل مسؤوليتك. عليك أن تجد عملاً وتدبر أمورك بنفسك. أما ما أنفقتُه عليك، فسيتم حسابه وسداده لاحقًا.”
شعر فارس بالورطة الحقيقية. لم يجد أي عملٍ بعد، والديون بدأت تتراكم عليه: إيجار المسكن، الطعام، والمصاريف اليومية. بعد أسبوعٍ آخر من اليأس، وبعد أن باتت جيوبه فارغة، عرض عليه حسام حلًا:
“هناك عملٌ بسيط ومربح يا فارس. توصيل طلبات معينة من مكان لآخر. لن تسأل عن محتواها، إنها أكياسٌ مغلقة، وكل ما عليك فعله هو إيصالها. المقابل كبيرٌ جدًا!”
شعر فارس بوخزٍ في ضميره، إحساسٌ غامضٌ بأن هناك شيئًا خاطئًا في الأمر. لكن اليأس كان قد تمكن منه. لقد خسر كل شيء، ولم يعد لديه ما يخسره. وافق وهو يلعن نفسه في قرارة قلبه.
مضى شهر، ثم شهران، وثلاثة. كانت الأموال تتدفق بغزارةٍ في جيب فارس، كلما أوصل طلبية. حاول أن يُقنع نفسه أن الأمر بسيط، وأن لا ضرر فيه طالما أنه لا يعلم ما بداخل تلك الأكياس. كان يشتري لنفسه الملابس الفاخرة، ويأكل في المطاعم الفخمة، ويحاول أن ينسى ماضيه.
وذات يوم، بينما كان في طريقه لتوصيل إحدى “الطلبات”، فوجئ بسيارات الشرطة تتربص به. تجمّدت الدماء في عروقه وهو يرى الأضواء الزرقاء الحمراء تومض من حوله. رجال الشرطة يقتادونه، يفتشون حقيبته، ليجدوا بداخلها كمياتٍ هائلةً من المواد المخدرة.
حاول فارس أن يشرح لهم الأمر، أن يخبرهم عن حسام، وعن الأكياس المغلقة، وعن براءته المزعومة. لكن الأوان كان قد فات. حسام اختفى تمامًا، وكأن الأرض انشقت وابتلعته. والشخص الذي كان يسلمه الطلبات، لا أثر له.
تورط فارس وحده. دموعه انهمرت كالشلال وهو يرى أحلامه تتبخر، حياته تتحطم. حُكم عليه بالسجن سنواتٍ طويلة. سنواتٌ سيقضيها خلف القضبان، نادمًا، أسفًا، مُتألمًا. أضاع زوجته، ابنه، وظيفته، وسمعته. أصبح غريبًا مسجونًا في بلدٍ غريب، بسبب صداقةٍ ليتها ما حدثت، وبسبب طمعٍ أعمى بصيرةً، ودفعه إلى الهاوية. #ريم_السيد
كانت حياته الهادئة ثمنًا باهظًا لغوايةٍ عابرة، وحلمٍ زائفٍ بالثراء. وفي زنزانته الباردة، لم يتبقَ له سوى تلاوة دعوة زوجته السابقة، التي أصبحت كالشفرة التي تنهش روحه كل ليلة: “مثلما تركتني وتركت ابنك، الله يجعل عمرك ما تقدر تعاشر أي بنت، وإذا خلفت ما تفرح بأولادك، ويتشتتوا عنك، وتتمنى تشوفهم وما تقدر.” وبات يدرك، أن الدعوة كانت نبوءة، وقد تحققت.
قصة / ثمنُ الغواية
بقلم / ريم السيد المتولي .
عن قصة حقيقية.
Share this content: