
الرأي العام واستقلال القضاء (القاضي أريج خليل)
كان ولا يزال للإعلام بكافة صنوفه، المكتوب منه أو المسموع أو المقروء، تأثير مباشر على الرأي العام، كونه مؤثراً على سلوكيات الفرد المتلقي، بين الفائدة وتوسيع المدارك كتأثير إيجابي، إلى أسلوب الإيحاء والتوجيه الخاطئ كتأثير سلبي، والذي ينسحب على عموم سلوكيات أفراد المجتمع. وواضح ذلك في تجارب الشعوب والأنظمة التي برعت في استخدام الإعلام كأداة لتوجيه المجتمع. وفيما مضى كان الدور الأبرز هو لما يسمى بالصحافة الوثائقية، وهي الأقل تأثيراً، كونها تعيد سرد التجارب الماضية للشعوب، والخوض فيها لا يتعدى تكرار الوقائع والأحداث. إلا أن الصحافة لم تعد هي الواجهة الأكثر أهمية للإعلام، بل أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات المتلفزة هي الأكثر تأثيراً على الرأي العام، وأصبح كافة أبناء الشعب ومن منازلهم يديرون ويوجهون الرأي العام باتجاه معين عن طريق ما يتم نشره في وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة ما يقوم به البعض من مستخدمي هذه الوسائل من عمل الهاشتاغات التي تخص موضوعاً معيناً بالشكل الذي يجعل من قضية معينة قضية رأي عام في غضون أيام بل وحتى ساعات. فالإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لهما الأهمية الكبرى في إعطاء بعض القضايا أهمية مجتمعية، ويلعبان نفس الدور في تهميش قضايا أخرى.
قبل أيام أصبحت قضية الدكتورة بان زياد طارق قضية رأي عام، واتفق الرأي العام، وقبل ظهور نتائج التحقيق، على أنها ماتت مقتولة ولم تمت منتحرة، بل ودعا رواد مواقع التواصل الاجتماعي إلى وقفات احتجاجية في كافة المحافظات للتأكيد على محاسبة القاتل، بل ويوجد منهم من يوجه النصائح للقاضي في اتخاذ إجراء معين دون آخر، أو ينبهه على أمور شاهدها هو في مسرح الجريمة، وخطورة ذلك أن العاملين في الإعلام ورواد مواقع التواصل الاجتماعي بدأوا يتحركون وفق منهج البحث عن أمور جدلية أو وقائع تكون بمثابة حديث الساعة، ولأن أغلب من يباشر هذا العمل الآن هم أفراد أو مؤسسات ربحية، فبات من الصعب السيطرة على سلوكيات العمل الصحافي للكثير منهم ما لم تكن هناك تشريعات ضابطة لتلك السلوكيات بالقدر الذي يحفظ حرية الإعلام، وفي الوقت نفسه يضمن مصلحة المجتمع من خلال ضبط وتقنين ما ينشر للعامة من وقائع بالشكل الذي أصبح التطور العلمي في وسائل الإعلام سبباً مهماً في صعوبة ضبط المحتوى المطروح، وذلك لسرعة وسهولة عرضه للمتلقي.
ومن خلال الاطلاع على القوانين ذات الشأن في العراق، فإننا نجد أولاً ما جاء في المادة ٣٨ / ثانياً من دستور جمهورية العراق الذي كفل حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر بشرط عدم الإخلال بالنظام العام أو الآداب العامة، كما نجد قانون نقابة الصحفيين رقم ١٧٨ لسنة ١٩٦٩ الذي تناول كل ما يتعلق بالنقابة، وكذلك قانون حماية الصحفيين رقم ٢١ لسنة ٢٠١١ والذي تناول حماية هذه الفئة المجتمعية، ولم يتم تنظيم حرية الصحافة بموجب هذا القانون أو فرض عقوبات رادعة على من يتجاوز هذه الحرية، مما يستلزم وبقدر تعلق الأمر بالشأن القضائي حصول إضافة تشريعية تلزم الصحفي والإعلامي بحظر نشر وإذاعة مجريات التحقيق الجنائي، كون أن الإعلام هو من يوجه الرأي العام غالباً، وأن الرأي العام من أكثر الجهات تأثيراً على مبدأ استقلال القضاء، وأن عدم تنظيم ذلك بتشريع سيؤثر بشكل سلبي على هذا المبدأ، بل سيتعداه إلى التأثير أيضاً بمبدأ البراءة المفترضة.
ووفق التشريع العراقي فإن التحقيق الجنائي يمتاز بعدم العلانية، فلا يجوز لأي شخص حضور التحقيق أمام قاضي التحقيق سوى الخصوم ووكلائهم، وأن هذا المنع يسري على الصحفيين وكافة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، لأن الاتهام في مرحلة التحقيق يقع في دائرة الشك والاحتمال، وأن إعلان الإجراءات في هذه المرحلة يخل بمبدأ البراءة المفترضة والتي يجب أن يستمر افتراضها حتى تثبت إدانة المتهم، كما أنه سيؤثر على استقلالية القاضي وحياديته في حالة نشر مجريات التحقيق في هذه المرحلة أو نشر صور ضوئية لقرارات السادة قضاة التحقيق وبالشكل الذي يؤثر على الرأي العام فيصبح القضاء أمام مطالبات واحتجاجات مجتمعية تؤثر سلباً في استقلاله، وفي حالة كون القرار القضائي منسجماً مع ما يطالب به الرأي العام نجدهم يمجدون السلطة القضائية وبالقضاة، وإذا ما حصل العكس نجد أن جميع رواد مواقع التواصل الاجتماعي من الناشرين والمعلقين والمشاركين قد ارتكبوا جريمة إهانة سلطة مستقلة من سلطات الدولة وهي السلطة القضائية، فلا يمكن تصور تأثير الرأي العام على القاضي باعتباره عضواً في سلطة قضائية مستقلة، فهو مستقل عن الإعلام والرأي العام ولا يمكن أن تتأثر قناعته الوجدانية بذلك.
كما أن المادة ٢٣٥ من قانون العقوبات العراقي نصت على أن “يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين من نشر بإحدى طرق العلانية أموراً من شأنها التأثير في الحكام أو القضاة الذين انيط بهم الفصل في دعوى مطروحة أمام جهة من جهات القضاء أو في رجال القضاء أو غيرهم من الموظفين المكلفين بالتحقيق أو التأثير في الخبراء أو المحكمين أو الشهود الذين قد يطلبون لأداء الشهادة في تلك الدعوى، أو ذلك التحقيق، أو أموراً من شأنها منع الشخص من الإفضاء بمعلوماته لذوي الاختصاص”.
فإذا كان القصد من النشر إحداث التأثير المذكور أو كانت الأمور المنشورة كاذبة تكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على سنتين وغرامة أو إحدى هاتين العقوبتين…. ” وهذا المنع موجه إلى الكافة وأن الضرورة تحتم إصدار تشريع جديد موجه إلى القائمين على الصحافة على غرار قانون العمل الصحفي رقم ٣٥ لسنة ٢٠٠٧ في إقليم كردستان والذي نص صراحة في الفقرة ٦ من المادة ٩ منه على فرض عقوبات مالية كبيرة “على كل من يضر بإجراءات التحقيق والمحاكمة إلا إذا أجازت المحكمة نشرها”.
حيث أن المشكلة تثار عندما يتجاوز الإعلام مهنيته وينشر تكهنات ويستضيف أناساً بعيدين كل البعد عن الفهم القانوني الصحيح قاصداً التأثير السلبي على الرأي العام هادفاً دفعه إلى الانحياز إلى أحد الأطراف، لذا ندعو المشرع العراقي إلى التدخل وإدراج نص صريح يحد من دور الإعلام السلبي في التأثير على استقلالية القضاء والقاضي، وإلزامه بنقل صور واقعية عن المحاكمات بعد استحصال موافقة المحكمة بهدف توظيف الإعلام لخدمة العدالة التي هي الهدف المطلوب من كافة الأطراف، وأن الهدف من ذلك تعزيز استقلال القاضي لا تبرير موقفه، لأن القاضي يبرر قراراته عن طريق تسبيبها ضمن منطوق الحكم ولكافة الأطراف حق الطعن وفق القانون.
وأن الدستور العراقي وأن نص على حرية الصحافة وحرية التعبير عن الرأي إلا أن ذلك يجب أن ينظم بموجب قانون، لأن عدم تنظيمه سيؤثر حتماً على باقي المبادئ الدستورية، لذلك نحتاج إلى فرض عقوبات رادعة لكل من يستغل الحريات بشكل مخالف للقانون، وبذلك فإن مبدأ استقلال القضاء لم يعد يتناول العلاقة بين السلطة القضائية من جهة والسلطتين التشريعية والتنفيذية من جهة أخرى، بل تعداها إلى السلطة الرابعة خاصة في وقت أصبحت الرقابة محدودة على الإعلام بشكل عام والصحافة بشكل خاص، فأصبحت ذات تأثير في الرأي العام وفي عمل القاضي بالشكل الذي يستوجب تدخل تشريعي كما يستوجب تثقيف الرأي العام بمبدأ استقلال القضاء عن طريق حملات إعلامية في الإعلام المرئي والمسموع والمقروء.

Share this content: