

حسن لافي: غزة تحتضر و دواؤها الوحيد وقف الحرب
ما يجري في غزة ليس مجرد خرق للقانون، بل سياسة ممنهجة تتقاطع فيها الأهداف العسكرية والسياسية، ضمن مشروع مزدوج يقوم على التدمير الشامل للبنية الحياتية.
على ضوء التقارير الإعلامية والصور المروّعة القادمة من قطاع غزة، والتي تُظهر واقعًا متفاقمًا من المجاعة الشاملة، ومع توالي الاتهامات من منظمات دولية وعدد متزايد من دول العالم لـ”إسرائيل” بممارسة عملية تجويع ممنهجة ضد المدنيين، بات من الواضح أن آلية توزيع المساعدات التي تتّبعها سلطات الاحتلال لا تهدف إلى الإغاثة، بل إلى صناعة مجاعة متعمّدة كجزء من خطّتها العسكرية الشاملة لتدمير قطاع غزة.
في هذا السياق، جاءت تحذيرات وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر وسفير “إسرائيل” في واشنطن يحيئيل لايتر، بحسب ما نشرته القناة الإسرائيلية “N12″، بأن “إسرائيل” تمرّ بـ”وضع انهيار كامل”، سواء على مستوى الرأي العام العالمي أو داخل المنظومة الأميركية. وقد أُشير إلى أنه إذا لم تُتخذ خطوات فورية تُظهر تغيّرًا ملموسًا، فإن وضع “إسرائيل” سيزداد خطورة.
ردًا على هذا الضغط الدولي، بدأت “إسرائيل” باتخاذ إجراءات شكلية هدفها تجميل صورتها لا تغيير سياساتها، من خلال الإعلان عن “هدن إنسانية” إعلامية، وإسقاط صناديق غذائية في مناطق حمراء تحت سيطرتها، وغالبًا ما تكون خالية من السكان. كما أن تنظيم ممرات لإدخال مساعدات أممية يجري عبر مناطق خاضعة لميليشيات موالية لـ”إسرائيل”، حيث تُنهب المساعدات ويُحرم السكان منها عمدًا.
ورغم اعتراض وزراء “الصهيونية الدينية” في الحكومة الإسرائيلية، سرعان ما كشف وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، رئيس الحزب، في رسالة داخلية لنواب كتلته، أن استئناف إدخال المساعدات “جزء من خطة استراتيجية جيدة يجب عدم التوسّع في شرحها حاليًا، وسنرى خلال وقت قصير إلى أين ستقودنا”.
هذا التصريح يعري الحقيقة: لا تغيّر في السياسات، بل إعادة تموضع داخل استراتيجية ممنهجة، يتبنّاها أكثر من أيّ وقت مضى رموز التطرّف الصهيوني مثل سموتريتش وبن غفير، الداعمين للإبادة الجماعية والتهجير القسري في غزة.
لا يحتاج هذا المقال إلى إثبات وقوع جريمة التجويع في غزة، فالنصوص القانونية وحدها كافية:
المادة (54) من البروتوكول الإضافي الأول (1977) لاتفاقيات جنيف تنص صراحة على:
“يُحظر استخدام التجويع كسلاح في الحرب ضد المدنيين… ويُحظر مهاجمة أو تدمير أو إزالة أو جعل غير صالح للاستعمال الأشياء التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين مثل المواد الغذائية، الأراضي الزراعية، المواشي، مياه الشرب، ومرافق الري، بهدف تجويع السكان أو إجبارهم على النزوح”.
المادة 8(2)(ب)(xxv) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) تؤكد أن:
“استخدام التجويع ضد المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب” يُعدّ جريمة حرب، خاصة إذا اقترن “بعرقلة متعمّدة للإمدادات من مواد الإغاثة الضرورية لبقاء السكان على قيد الحياة”.
ما يجري في غزة ليس مجرد خرق للقانون، بل سياسة ممنهجة تتقاطع فيها الأهداف العسكرية والسياسية، ضمن مشروع مزدوج يقوم على:
1. التدمير الشامل للبنية الحياتية:
“الجيش” الإسرائيلي يعتمد في عملياته على عقيدة “تدمير بيئة العدو”، أي ليس فقط القضاء على المقاومة، بل شطب إمكانية الحياة ذاتها. يتجلى ذلك في:
تدمير المخزون الغذائي.
منع الإنتاج الزراعي ومنع إعادة الإعمار.
قصف محطات المياه، الكهرباء، المستشفيات، والمخابز.
2. التهجير السكاني القسري:
التجويع ليس فقط أداة لإضعاف العدو، بل وسيلة لخلق ضغط داخلي يؤدي إلى:
نزوح داخلي واسع نحو الجنوب (كما حدث في رفح)، ثم إلى خارج القطاع.
دفع السكان إلى قبول الترحيل كخيار وحيد للبقاء، في ظل خلق واقع “إنساني مستحيل”، يجعل من العيش في غزة غير ممكن بيولوجيًا.
تدعم هذا المشروع رغبة إسرائيلية موثّقة، إذ أظهر استطلاع أجرته جامعة “تل أبيب” أن أكثر من نصف الإسرائيليين يؤيدون التهجير الجماعي لسكان غزة.
نحن أمام جريمة مركبة، تدمج بين:
* جريمة الحرب (التجويع كسلاح)
* جريمة التهجير القسري
*.جريمة الإبادة البطيئة، مع توفّر القصد التدميري الممنهج ضد المدنيين.
لم يعد مقبولًا أن يواصل العالم خداع نفسه عبر الاكتفاء بإرسال المساعدات أو إطلاق دعوات إلى وقف إنساني مؤقت؛ كون هذه المساعدات ستمكن “إسرائيل” و”جيشها” من الاستمرار في عملية الإبادة الجماعية في غزة، كونها لا تستخدم التجويع كوسيلة ضغط لاستعادة أسراها، بل كسلاح إبادة ضد أكثر من مليوني إنسان في غزة، وسط تواطؤ أميركي وصمت دولي مدوٍّ.
ليس المطلوب اليوم التعامل مع المجاعة والدمار كأعراض منفصلة، بل الاعتراف بأن المرض الحقيقي هو الحرب، وأن الاحتلال هو منبع الكارثة. وقف الحرب ضرورة أخلاقية وإنسانية عاجلة، لكنه يجب أن يُفضي إلى الحل الجذري: إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة ذات السيادة.
فما دام الاحتلال قائمًا، ستبقى المنطقة فوق فوهة بركان، تنفجر من جديد كلما أُتيح الظرف، ويستمر نزيف الدم والجوع والتهجير في دورة لن تنكسر إلا بعد اجتثاث الجذر: الاحتلال.
حسن لافي
كاتب فلسطيني مختص بالشأن الإسرائيلي
عراقي عربي مسلم متعلم في سبيل النجاة مهتم بالشان السياسي والقانوني مستشار قانوني ادارة موقع الشبكة من اجل ثقافة قانونية والخبر الصحيح ادارة عراق المودة لاستضافة المواقع