
37 عامًا على السلام المسموم… والمنطقة تنذر بحرب شاملة
تمر اليوم، الثامن من آب/أغسطس، الذكرى السابعه والثلاثون على نهاية الحرب العراقية-الإيرانية عام 1988، تلك الحرب التي تعد واحدة من أطول وأعنف حروب القرن العشرين، وأكثرها استنزافًا للمنطقة وشعوبها. ثماني سنوات من الدمار المتواصل، حُسمت ليس بانتصار طرف على آخر، بل بصفقة كبرى رسمت معالمها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال لقاء جمع الرئيس ريغن بالزعيم السوفيتي غورباتشوف في يالطا، في إطار تفاهمات شاملة لتقاسم النفوذ العالمي، أدت لاحقًا إلى سقوط جدار برلين، وانهيار النظام الشيوعي في أوروبا الشرقية، وإطفاء نار الحرب التي أحرقت البلدين، العراق وإيران، واستنزفتهما بشريًا واقتصاديًا.

لم تكن نهاية الحرب خيارًا وطنيًا خالصًا، بل نتيجة ضغوط هائلة ووقائع مفروضة بالقوة. حينها، كانت إيران ترفض التفاهم مع نظام صدام حسين، لكن رسائل التهديد الأمريكية كانت واضحة، وبلغت ذروتها بإسقاط طائرة مدنية إيرانية بصاروخ أمريكي بعد أيام قليلة، ما أسفر عن مقتل جميع ركابها. أمام هذا الواقع، اضطر الزعيم الإيراني الراحل، آية الله الخميني، إلى تجرّع “كأس السم” كما وصفه، وقَبِل بوقف إطلاق النار.
الحرب أنهكت إيران التي لم يكن في خزينتها حينها سوى 100 مليون دولار من العملة الصعبة، فيما خرج العراق مثقلًا بديون بلغت 61 مليار دولار، رغم الدعم العربي السخي الذي كان مدفوعًا بالخوف من شعار “تصدير الثورة”. غير أن هذه الحرب لم تترك فقط دمارًا اقتصاديًا، بل غيّرت أيضًا ملامح المجتمع العراقي، وكرّست سلطة صدام حسين المطلقة، وغروره الذي قاده لاحقًا إلى تجاوز الخطوط الحمراء الدولية، والتورط في غزو الكويت، وما تبعه من كوارث لا تزال آثارها مستمرة حتى اليوم.
كان الغرب يرى في تلك الحرب صراعًا بين “وحشين في قفص واحد”، كما وصفها مارتن إنديك. وفعلاً، سقط خلالها أكثر من مليون إيراني بين قتيل وجريح، ونحو ربع مليون عراقي، بلا جدوى حقيقية، في حرب صنعتها مصالح خارجية ودُفعت أثمانها من دماء شعوب المنطقة. أما النتيجة، فكانت كارثية: العراق تحوّل من دولة ذات فائض مالي تجاوز 32 مليار دولار عام 1980 إلى دولة غارقة في الديون وممزقة سياسيًا واقتصاديًا.
بعد الحرب، سارعت إيران إلى ترميم جراحها، وأعادت بناء مؤسساتها، ونجحت في أن تصبح قوة إقليمية وازنة، بل وأحد أهم الفاعلين في مستقبل العراق نفسه، الذي خرج من الحرب منهكًا، ولم يتعافَ حتى اليوم. وقد فتحت تلك الحرب أبوابًا لصراعات جديدة، وسهّلت اجتياح لبنان عام 1982، وكرّست الاحتلال الإسرائيلي عام 1988، ومهّدت لمؤتمر مدريد عام 1991، وأخرجت العراق من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، بعد عزل مصر عن المواجهة في أعقاب كامب ديفيد. كانت حربًا بالوكالة، خاضها العرب ضد بعضهم البعض، ودفعت إيران والعراق ثمنها نيابة عن قوى كبرى، وعلى حساب الشعبين.
للأسف، ما زلنا حتى اليوم ندفع ثمن تلك الحرب التي روّج لها الكثيرون على أنها “حرب قومية ضد الفرس”، لكنها في الحقيقة كانت مشروعًا فاشيًا وطائفيًا توسّع لاحقًا، وأشعل صراعات داخلية حوّلت مدن العرب إلى ركام، وفتحت أبواب الفتن الطائفية، وغيرت وجه المنطقة بالكامل. اختلطت البنادق، وتشوّهت البوصلة، فضاعت فلسطين، وانهارت الجبهة العربية، وتحولت الشعارات القومية إلى وقود لحروب عبثية، عززت الانقسامات، ومهّدت الطريق لصعود تنظيمات متطرفة، كداعش، وفتحت المنطقة على فوضى لم تهدأ.
رغم مرور 35 عامًا، فإن تلك الحرب لم تنتهِ فعليًا. تبدّل اللاعبون، لكن العقل المدبر لا يزال نفسه. القوى التي أشعلت فتيل تلك الحرب لا تزال تواصل إشعال المنطقة تحت ذرائع يصعب حتى على الشيطان أن يبتكرها. الحرب الأخيرة ضد إيران، سواء عبر الهجمات الإسرائيلية، أو عبر المواجهات في العراق وسوريا ولبنان، أو عبر العقوبات والضغوط الدولية، هي امتداد لذلك الصراع القديم. المنطقة تغلي من جديد، والتصعيد بلغ مراحل خطيرة تنذر بحرب مدمرة شاملة، قد تلتهم ما تبقى من استقرار هش.
من رماد حرب الثمانينات، ينهض جحيم اليوم. لا شيء تغير سوى الأدوات والأسماء، بينما المشروع نفسه مستمر: تفتيت المنطقة، وإنهاك شعوبها، وإبقاء الدم نازفًا. الرحمة لضحايا تلك الحرب، والمشردين والمعوقين الذين لا يزالون يدفعون ثمنها، واليقظة لكل من يظن أن الحرب انتهت في آب 1988، بينما الحقيقة أنها ما زالت تفتك بنا، ببطء ودهاء.

Share this content: