
عزيز الدفاعي: في الطريق الى مدينه الدموع
في الطريق الى مدينه الدموع
لو جمعتَ أنين الأرض كلّه،
من عواء الثكالى في آخر القطب،
إلى نشيج الأرامل في صحارى المنفى،
ما بلغَ عمقَ هذا الحزن الجنوبي…
حزنٌ لا يُبكى، بل يُنزَف،
لا يُحكى، بل يُسكن الصدر كسرٍّ لا يُقال،
تغوص جذوره في الطين والملح والدم،
وينوح القلب فيه كما تنوح الأمّ على رضيعها في ليلٍ بلا ضوء.
يا للعراق الجنوبي…
ذاك الذي وُلِد والحزن في عينيه،
ما ذاق طعم الفرح إلا نادرًا،
وكلما ابتسمت شفاهه،
انطفأ النور في عينيه كقنديلٍ داهمته الريح.
هذا الجنوب لم يعرف إلا الفقد،
كل شيء فيه يُؤخذ بالقوة:
الأب، الأخ، الحبيب، الحلم، حتى الأمهات يُنتزعن من صدور أبنائهن…
كأن الأرض فيه لا تلد إلا الشهداء.
فتّشتُ عن معنى الحزن بين سطور التاريخ،
قرأتُ صرخات عبيد إفريقيا،
وهم يُسحبون بالسلاسل من جذورهم
إلى بلادٍ بلا قلب،
تبخرت دموعهم مع ملوحة المحيط،
وحفروا قبورهم بأظافرهم على ظهر السفن،
ثم صمتوا… صمتًا يشبه الموت.
وسافرتُ في خرائط الألم…
من أمريكا اللاتينية المصلوبة على صلبان الذهب،
إلى غابات الهند الجائعة،
إلى أساطير السحر الأسود،
إلى مزامير أورشليم وهي تُهدم وتُسبى.
فلم أرَ حزنًا يشبه ما في عيون أمّ جنوبيّة
تغسل ثياب ولدها الشهيد، وتضمها إلى صدرها… كأنها آخر ما تبقّى منه.
تقلبتُ في كتاب الموتى عند الفراعنة،
واستمعتُ لحكايات الشاهنامه
وصرخات المدن الفارسية تحت سيوف الغزاة.
وقرأتُ في فرويد وبافلوف أسرار النفس،
حللتُ الحزن كما يُحلَّل الحلم،
لكنّي بقيتُ عاجزًا…
كأن جنوب العراق ليس أرضًا، بل ذاكرةٌ من البكاء.
وكلما ظننتُ أنني اقتربت،
وقفت كربلاء أمامي بكل جراحها.
كأنها الخاتمة والبداية،
كأن دمَ الحسين، وهو يُذبح عطشانًا،
هو ذاته دمعُ عشتار حين فُقد تمّوز،
وصوتُ عليّ في المحراب: “فزتُ وربِّ الكعبة”
والسيفُ ينهال على رأسه،
هو صرخة كلكامش حين سرقت الأفعى منه عشبة الخلود
وأدركَ أن لا نجاة لأحدٍ من الفقد.
لكنّي أدركت الحزن على حقيقته
عندما شاهدتُ ابنتي وأخوتها
وهم يُلقون بأجسادهم فوق لحد أمهم في وادي السلام،
كأنهم يريدون أن يلحقوا بها،
أن يعودوا إلى رحمها لعلّ الموت أحنّ من هذا الفقد.
في تلك اللحظة… انشطرت روحي،
وانقسمت السماوات فوق رأسي،
وامتلأ الصدر بصوتٍ لا يُقال… بل يُشهق.
كربلاء لم تكن ساحة معركة…
كانت قلبًا بشريًّا انكسر،
امتدادًا لطوفان نوح،
ونهرًا من دموعٍ ظلّت تتدفّق عبر القرون
حتى غمرت الجنوب.
أنتم وحدكم خارطة العراق،
أرضُ السوادِ والدمِ والقهرِ والأحزان،
فلنبكِ…
فلنبكِ كما لم نبكِ من قبل،
فلعلّ الروح ترتاح،
أو لعلّ الله يسمع هذا الحزن من بين الضلوع
Share this content: