سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 25

الأشجار تتلألأ و الأزهار الطبيعية تشكل لوحة ملونة زاهية كإنها نقشت بعناية على بساط الخضرة و الأعشاب التي غسلتها غزارة الامطار بالامس .. وهي تعكس لناظري أشعة الشمس الصافية و التي بدت اكثر سطوعا صباح هذا اليوم الذي أقف به الآن واقفاً مع الاستاذ جودت الفلسطيني في الساحة الكبيرة التي تتوسط البناية والاراضي الزراعية و البساتين المجاورة .. رحنا نتمشى في الطريق الذي يمرُّ قبالة هذه الساحة ونحن ننعم بكل هذه الهواء النقي الذي نتنفسه بعمق وسط هذه الإجواء المنعشة للروح و للجسد .. و حسناً إن شهر رمضان قد منح رئة الأستاذ جودت كل هذا الوفرة من الأوكسجين التي كانت تحاصرها نفثات الدخان لسكائره المتعاقبة لكل بضعة دقائق .. حتى باتت أطراف أصابع يده التي يمسك سيكارته فيها ذات لون بني مائل الى أصفر قاتم .. لعله أقف عاجزاّ عن مواساته بكل عبارات الصبر و العاطفة أمام كل هذا الجبل المتكوّر من الحزن و الهم الذي بداخله .. و هو لم يعد بمقدوره أن يسافر الى مصر أو فلسطين أو الأردن لرؤية أهله أو أي أحد من أقرباءه هناك حيث يتوزعون .. حتى غطت أحاديث العمل و الإجراءات الإدارية لإتمام الإقامة و حياتنا اليومية التي نعيشها بكل رتابه و هدوء .. بين الدوام في الصباح و دعوات الإفطار في المساء و جلسات السمر الى منتصف الليل تقريبا على كل ما دار بيننا الى نهاية هذه الساعة التي أخذنا نهمُّ بعدها بالرجوع لإكمال ما تبقى من محاضراتنا لهذا اليوم .. بعدما إتفقنا على أن نذهب سويةً في سيارته الى القرةبوللي بعد إنتهاء الدوام لشراء بعض الإحتياجات لنا و الذهاب للبريد هناك عسى و إن أجد رسالة لأي أحد منّا في صندوق البريد الخاص بنا .. الاستاذ جابر المصري كان برفقتنا ونحن نطوي الطريق الى القرةبوللي في كل هذا الشمس الصافية التي تلمع أشعتها وهي تنعكس الينا من على اوراق أشجار الزيتون و الحمضيات المتناثرة على جانبي الطريق .. الإستاذ جابر نكهة الصعيد المصري بطيبته و صدقه و شهامته التي بدت واضحة عليه أول أيام تعارفنا في هذا المكان و قد ميزته عن زملاءه المصريين .. في هذه اللحظات التي تسود عليها أجواء الود و الوئام بيننا الآن فإن البعد الإنساني هو أكثر ما يميزّها و يرفدها بدوافع التعايش و التعاون و الإنسجام و التسامح دون أي بعد أو رابط آخر .. ترجلنا من السيارة بعد إن ركنها الاستاذ جودت في مكان قريب من السوق الرئيسي للمدينة .. سرنا بروية و نحن ننظر للمحلات و البضائع في السوق و نتبضع إحتياجاتنا ..نتخطى الأرصفة و كأننا ندجَّن أنفاسنا في دروب المدينة .. ثمَّ إنعطفنا بإتجاه البريد بعدما وضعنا الأغراض و الحاجيات و الخضار التي تبضعناها في ال يارة .. رسالة من صديقي فاهم و أخرى من اليمن أحد أصدقائي يعمل طبيب هناك و رسالة الى الأستاذ عبدالله من أهله في البصرة هو كل ما جاء إلينا هذا الاسبوع .. أخذت السيارة تنعطف بنا بإتجاه طريق سيدي عمير بعد هذه الجولة التي إستغرقت أكثر من ساعتين ما بين الأسواق و البريد و نحن في راحة و إنتشاء تام من ما يبعثه في نفوسنا هذا الصعيدي المرح من طرف و مزاح طول الوقت ..

النوم في هذا الشتاء القارس هو أفضل وسيلة أن تقتل فيها الوقت بهذه القيلولات بعد إنتهاء الدوام أو الذهاب الى سوق القرة بوللي عادةً .. إيقظني الاستاذ عبدالله في آخر المساء قبيل ساعة غروب الشمس .. لعله الرسائل التي وصلتني اليوم من أصدقائي وقرأتها قبل أن إنام جعلتني أنام بكل هذا العمق وإنا مرتاح وسعيد بأخبارهم التي وصلتني اليوم .. هيئنا أنفسنا ونحن ننتظر الأستاذ عبدالسلام بلعيد و قد دعانا للأفطار في بيته لهذا اليوم .. لم تمر إلاّ حوالي ربع ساعة حتى جاء الاستاذ عبدالسلام بسيارته ليأخذنا الى بيته .. الاستاذ عبدالسلام معلم في المدرسة الابتدائية التي تشغل البناية في المساء و هو رجل هادئ و كيس يأتي دائماً للجلوس معنا في صالة الكرفان في الدوام المسائي عندما لا يوجد لديه درس للتلاميذ .. نحتسي الشاي معاً و ينفثون هو و الإستاذ عبدالله سكائرهم بشراهة دونما توقف .. سارت بنا السيارة الى جنوب المكان في أكثر من منعطف حتى وصلنا بيته الذي يتوسط إحوازته إذ تتناثر بها الأشجار هنا و هناك و الذي نقف الى قبالته الآن ..

بروح باذخة بالود و الترحاب إصطحبنا الى داخل ( المربوعة ) في الوقت الذي لم يتبقى لموعد الإفطار إلاّ عشرة دقائق .. في الخواطر والحكايات راحت تبحر سفينة سمرنا هذه الليلة بعد أن تناولنا طعام الإفطار الذي أعد بعناية و بكرم باذخ .. فرحنا نتبادل كل هذا الدفء و كل هذه الأحاديث التي ترمم الروح و تؤنس النفس ..

الاستاذ عبدالسلام بلعيد قد وافته المنية قبل ثلاثة أعوام ..

الرحمة والرضوان و عظيم المغفرة لروحه النقية الطاهرة ..

مواضيع الكاتب