
ميسلون هادي : عندما عاش الناس بأجسام نحيفة كأعواد الثقاب
في التسعينات إذا فكرت بتناول الهمبركر، فعليك أن تدفع مئتي دينار.. وإذا اشتريت كيلوين من البطاطا مع كيلو من اللالنكي، ستعطي البائع ألفي دينار فيعيد لك ورقة من فئة المئة دينار.. ولكن!! من يستطيع أكل الهمبركر، او شراء كيلو من اللالنكي آنذاك؟ فعلاً من يستطيع ذلك في تلك السنوات التي كان الجسم فيها من تراب، والروح هي الوردة التي، شح عنها الماء، فكادت أن تجف وتتبعثر إلى فتات.
تفننا بتحوير ملابسنا إلى أعداد غفيرة من نسخ الثوب الواحد، وكل ثوب هو نواة صغيرة لأشكال كثيرة تتوزع على مجموعة من الأعمار والمناسبات. (شيشة المعجون) سعرها 1000 دينار، وهذا الألف هو ربع الراتب الذي كان يعادل ثلاثة دولارات فقط، ولأنها تشكل أهم ركن من أركان الأمن الغذائي للبيت. فإني أتذكر جيداً كيف تهشمت ذات يوم، بسبب الأكياس السوداء الرديئة للتسوق، فكان منظر تحطمها الرهيب على الأرض هو مما علق في ذاكرتي إلى الآن.. كيف سنطبخ إذن لبقية الشهر؟، كيف سيمشي الحال مع طبق الرز بدون مكملاته الأساسية؟، سيكون هذا المشهد قاسياً بحيث يدخل في روايتي (نبوءة فرعون)، ومشهد تمزق كيس آخر من اللالنكي في الشارع أشد قسوة، بحيث أكتب عنه قصتي (دانتيلا في يوم ممطر).. ولكم أن تتخيلوا بين هذين المشهدين كيف عاش العراقيون بأجسام نحيفة كأعواد الثقاب، وكيف جعل الطحين الأسود طعم المرارة حقيقيا في أفواههم، إلا من تاجر بالدولارات والسكائر والدواء وقوت الناس، أو كان من أصحاب الأملاك والملايين أصلاً.
بذور الشمس قمر كانت سيدة الموقف، بحيث كتب الشاعر رعد عبد القادر واحدة من أجمل قصائده عن تلك القشور الصغيرة التي ملأت الشوارع.. وعرض التلفزيون ندوة طبية حذرت من مضار الموز، وأخرى من مضار اللحم، كما ظهرت بعض النساتل مقاديرها تعتمد التمر بدلاً من السكر ، وتجرأ بعض المستظرفين على التندر على مخرج مسرحي جاد ، حاصل على شهادته العليا من دولة اشتراكية، لأنه غادرنا قبل يوم واحد من بدء توزيع الدجاج في حصة الأسواق المركزية..
شامبو ياسمين المحلي صعب المنال.. ومعجون الأسنان عنبر لا ينفد بقدرة قادر. أما معجون الحلاقة آدم للرجال فيمكن استبداله بالصابون، والأخفاف يمكن خياطتها بأيدينا وأسناننا، وورقة من فئة المئة دولار كانت تكفي عظمتها لكي أخلدها بشكل ساخر في روايتي (يواقيت الأرض).. ظننا الحصار سينتهي بعد أسابيع من فرضه علينا، لكنه بدأ ولم ينته إلا عندما انتهت الحرب، وقيل لنا أن العراق سيصبح شبيهاً بكاليفورنيا.
Share this content:
إرسال التعليق
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.