
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 18
السماء صافية .. و الأعشاب تتلألأ في هذا الصباح الندي .. و الشمس ترسل خيوطها على العشب و أشجار الزيتون و اللوز المتناثرة في المكان .. فتشع كالقناديل مورِّقة البهجة و الإرتياح في نفسي .. رحنا نتمشى فيه الآن أنا و زميلي الأستاذ جودت الفلسطيني قبالة مبنى المعهد .. متى أتيت الى هنا يا أستاذ جودت ؟ .. سئلته و أنا أفتتح الحديث معه و نحن نسير بخطوات متباطئة في الطريق والذي يسمى محليا ( بيستة ( تربته طينية ممزوجة بالرمل ارتصفت وكإنها معبدة بعد كل هذه الامطار الغزيرة التي هطلت خلال هذا الشهر ) ) .. الوقت كافٍ لإطلاق العنان لكل الأسئلة و الاحاديث التي تعرفنا تقربنا ببعضنا البعض .. فقد إنتهينا للتو من إلقاء محاضرتينا الإولى و لدينا ساعة كاملة قبل ان نواصل بقية المحاضرات لجدول هذا اليوم .. أجابني و الحسرة تتكسر في أنفاسه بحرقة و ألم : آه يا أستاذ أنا لديّ قصة موجعة هنا .. ثم أردف قائلاً و أنا أنصت له بإهتمام : لقد أتيت الى هنا من اليمن حيث كنت أُدرّس هناك منذ ست سنوات .. و لم أستطع الخروج من ليبيا لزيارة أهلي في مصر أو أقاربي في غزّة الى هذه اللحظة التي أُكلّمكَ فيها الآن .. مصر لا تسمح بدخول الفلسطينيين إليها الا بموافقات يصعب الحصول عليها .. و كذلك الصهاينة لا يسمحون لنا بالعودة الى هناك و يعني أقرباؤه في قطاع غزة .. إسترسل يتحدث عن معاناته و يبث آلامه ويبوح لي بكل هذا الوجع إذ تقطعت به السبل و لا أمل بزيارة أمه و أخوته الذين يسكنون مصر منذ الاحتلال الاسرائلي للضفة الغربية و قطاع غزة عام 1967 .. تحدثت في سري كما يبدو أن هذا العالم مليء بالحكايات و القصص الحزينة بلا نهاية .. فصرت أنا من يصبّره على هذا القدر الذي حتمّ عليه أن يغتمّ كل هذا الغم و يعيش كل هذه المأساة .. بعد إنقطاعي تماما عن الجذور سوى من رسائل تنبئك أنهم ما زالوا على قيد الحياة .. و رسائل صديقي فاهم التي يوشّحُها بنكهة دعاباته محاولاً فيها التخفيف عني .. حدثته عن دعوة الإفطار عند بيت الحاج سالم أبو زيد في الليلة الفائتة .. و كمية الراحة التي شعرت بها لساعات من السمر اللذيذ وانا اتطلع في ملامح وجوههم النبيلة .. رحنا نخطُّ بأقدامنا على مهل في هذه الإرض المفتوحة على البساتين القريبة و الربوة التي تطل على الوادي التي تبعد مسافة قريبة من هنا .. و هذه الخضرة التي تشبع ناظري بخيوط الأمل و حلم جميل يتسلل الى روحي سكينة و هدوء ..و تحت الشمس و هي تمنحنا كل هذا الدفىء و كل هذا التفاؤل .. وأنا أواصل حديثي مع هذا الطير المهاجر الذي نتف كل ريشه .. و لم يعد يقوى على الطيران و يحلق بعيدا مرةً ثانية .. وأنا أبصر حروفه العارية من أدنى أمل قد يلوح بالأفق .. فبادرته قائلا : نحن أيضا محتلّون من قبل الانظمة الديكتاتورية .. سرقت كل أحلامنا و طموحاتنا وتركتنا في مهب الريح ..يا أخي استاذ جودت ما أقسى ان تشاهد في حياتك مناظر تتقطع لها نياط القلب أسى أكثر من مشاهد العراقيين في الساحة الهاشمية في عمّان وكأنهم أشباح لا ملامح لهم منحت فرصة ساعة أو ساعتين للتجول في هذه الساعة بين الناس .. الضياع و الخيبات و نزيف الأماني و تآكل الأجساد التي باتت شاحبة والخوف من متابعة الشرطة لمن انتهت إقامتهم و الكثير هنا بدون عمل .. ماذا أحدثك يا أخي عن المشاهد و الاوضاع هناك في العراق .. كي أقنعك إننا محتلّون مثلكم .. ألم تصدق ذلك مني سألته مستفهماً و هو ينظر لي صامتا مندهشاً و متفاجئاً مني كل هذا الحماس و الإصرار على تقديم كل مالدي من شواهد وأدلة تدين الديكتاتور في تهمة إحتلاله للوطن .. أعرف يا أخي إنك و كغيرك من العرب أغوتهم حكاية الصواريخ التي وجهها الديكتاتور الى إسرائيل أبان حرب الخليج و صدقتم بها إنها ستنقذ الأمة من كل هذا الضياع الذي هيه فيه .. وأعرف كم الاموال الطائلة التي يغدق بها على الكتاب و المؤسسات الاعلامية .. ليشتري ذممهم في تجميل قبحه و تضليل العرب بهوس مغامراته العابثة و أحلامه المريضة .. التي صيرتنا مشردين في كل أصقاء العالم مثلكم يا أخي .. نعم أعلن أحتلاله للبلد منذ تسلمه للسلطة ليستبيحه بالكامل هو وأولاده و حاشيته الى الأبد .. فما الفرق يا أخي عندما يحتلك الأجنبي أو يحتلك إبن جلدتك .. فهما الإثنان يمارسون القتل والتنكيل وإستعباد الناس وإذلالهم وينهبون الثروات .. ما ذا تعني المسميات إزاء الفعل ذاته .. ها أنا معك الآن في هذه البقعة من الأرض مثلك لا أعرف متى أعود لأهلي و لايمكن لي ان اراهم او اسمع صوت أي احدُ منهم .. هممنا بالرجوع الى بناية المعهد فقد تراءت بعيداً عنّا بعض الشيء .. أواصل حديثه معه عن جرائم النظام و هو مطرقاً ينصت لي بتعجُّب و كأنه يسمع عنها لإول مرة ..
وصلنا المبنى و قد شارف الوقت بداية المحاضرة الثالثة موعد محاضرتي الثانية في الجدول .. انتهى وقت المحاضرات لهذا اليوم .. رحلت أخلد بلحظات أمان ودفئ في نوم عميق بعد يوم جهيد بالمحاضرات و الأحاديث الساخنة التي تبادلناها أنا والإستاذ جودت .. فظلت أجسادنا ساخنة كأحاديثنا مستعرة ككوة لاهبة لا تبرد .. تطارد سلالات الطين و القصب .. فلا مساحة كافية هناك لأحلامهم العبثية بالحرية و العيش الكريم التي تثير رعب الديكتاتور وتزعج نزق شهواته ..
إستيقظت في آخر المساء لا أسمع أي صوت وكأن المكان مهجور منذ عدة سنين .. كما يبدو إن التلاميذ الصغار قد غادرو المكان فلا أثر يدل عليهم .. يأتي المساء هنا فهو حكاية لوحده تتحملها جدران روحي الهشة .. التي تشتعل بحروف الحزن .. من كل هذا المنظر الموحش الذي يتدفق الى شعوري لحظات الغروب ..
نوري أبو زيد في إنتظارنا للأفطار في بيته اليوم الذي يقع الى جوار بيت أخيه الحاج سالم .. رحنا نتمشى والسكون يخيم على المكان بالكامل و ..ثمة شرود خارج هذه اللحظة بعيداً عن العين بكل هذه المسافات التي تفصلني عن شريط الذكريات على خارطة الوطن .. تجلدنا بعض الصور المخيفة فيه فتفزز القلب من كل هذا الذي يتنفسه من لهفة و توق الى ساعات السمر مع الأصدقاء في هذه الليلة .. بعد إن وصلنا إستقبلونا كعادتهم مرحبين نوري ابو زيد و أخيه الحاج سالم .. بعد إن تناولنا وليمة الإفطار بصنوفها الشهية و مذاقها الحار الذي احببته بعد وصولي الى ليبيا .. فرغنا لأحاديث السمر و نحن ننتشي في كل هذه الحفاوة و الاهتمام الذي يشعراننا به .. ونحن نحتسي أكواب الشاي الساخنة و الطيبة بنكهة عطر الزهر و إصدقائنا من عائلة ابو زيد أخذوا يتوافدون علينا واحدا بعد الآخر .. و آخرين أصدقاء لنوري ابو زيد أتوا من مناطق قريبة .. رحنا نغوص في أعماق أرواحنا .. و في خزائن السنين لدينا .. حتى أوشك العالم يزهر لمتعة الحكايات التي نبوح بها .. وعبير الأحاديث التي نتبادلها في هذه اللحظات السامرة التي نحن فيها الآن ..
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 3
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 4
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 5
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 6
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 7
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 8
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 9
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 10
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 11
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 12
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 13
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 14
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 15
Share this content: